Wednesday, December 1, 2010

ثرثـــ ~ ـرة ... نـوفـــ،،،ـمبر




مع رحيل شهر نوفمبر، بأوراقه اليابسة الحمراء... وأشجاره شبه العارية. وجماله الأخاذ وسحره الذي لا ينتهي.. وعاطفته المتدفقة...
أتى فصل الشتاء يحمل حقائبه، وأنسام الهواء تحدث عن عودته.
بَرَد كان يهمس في منتصف الليل خفوتا، ورياح كانت تعصف بالأبواب لتعبر عن شوق ولهفة لاغير.
×××
على عتبات الدرج كنت أراقب سطوع النجوم، التي تناثرت على بساط مخملي أزرق صافٍ، رائع الجمال.
كانت تتراقص من مكان لآخر. وكأنها تتدلل، ولا تحسب حسابا لقمر يشق غسق الليل بجماله.
أيعقل أنها لا تشعر بالغيرة أبدا؟ ألا تشعر بصغر حجمها أمام شموخه؟
كفي عن التدلل، وكفاك غنجا وتراقصا... لست شيئا مقارنة بالقمر..

أتنهد...~
مابالي أُنفس عن غضبي على نجوم لا تدري عن أمري شيئا، ولا تسمع لهمس صمتي نحيبًا ولا بكاءًا..

أتوقف، وأدفن رأسي بين يديّ... وأستشعر كل مشاعري..
ألم دفين يسامر قلبي، جرح حال صديدًا، ولن يكف عن النزيف قريبا...
أتمنى لو أستطيع أن أضحك من قلبي...
ضحكة واحدة أو ضحكتين من طرف ثغري كانت لتعيد إلى جزء من روحي شبه الفانية.
إلا أنني أشعر بأنني [وبكل ما تعنيه الكلمة] وحيدة.

أجلس على عتبات الدرج، علني أرى له طيفا في نهاية الطريق...
علّ ملكًا من السماء يسمع ندائي ويرسل بريح القدر لتدفعه إليّ مرة أخرى.
عله يحن إليّ، إلى حديثي، صمتي، وضحكاتي...
ثم يأتي راكضًا إلي...
علّ، وعلّ، وعلّ... وتبقى في النهاية [ هل ]؟؟ ...

أبقى أنا معلقة على عتبات الدرج، بين علّ وهل.. وأحيانا ربما...
أدور في متاهات مفرغة... لأجد أنني قد وصلت إلى اللامكان...
فأتخذ مجلسا هناك.. أراقب من جدران قلبي، من خلال نافذة مصمتة...
أشاهد اللاشيء... وأسامر صمتي وحسب.. حتى صرنا أعز الأصدقاء...
×××
نسمة باردة قبلت وجنتيّ... كانت كافية بأن تعيدني من ثرثرة بنات أفكاري...
إلى واقعي، وعالمي.. وعذابي...
أحدق في النجوم، مازلتْ.
علها تدفئ شيئا من جوف صدري، أو ترسم شبح ابتسامة على ثغري....
لكنها لم ولن تفعل.
وقفت من مكاني، ونفضت أي أثر لغبار أو حزن أو أسى...
لأودع شهر نوفمبر. أرسلت له وللنجوم قبلتين.
علها تطبع على خده...
ويدرك كم سأشتاق إليه...
على عتبات الدرج، سرت، ورياح القدر تتلاعب بي، فتحملني على كتفها تداعبني تارة، وتعصف بي تارة أخرى..
لأقف أمام التحديات. التي أنا ... كما أنا.. [ لها ].

Monday, October 18, 2010

المرات الأولى


×××
عندما تولد المشاعر لأول مرة، تترك في القلب أثرا لا ينسى، وتطبع على جدران ربيعنا بصمة تنحت في الذاكرة إلى الأبد..
لهذا السبب بالتحديد، نتذكر أول يوم دراسي في حياتنا وشعورنا عند فراق أمهاتنا ذلك اليوم، نذكر أول مرة قدنا فيها سيارة أو غنينا بصوت جهور أمام حشد من الناس. تلك الذكريات بكل ألوانها تصبح شعاعا ينير حياتنا.
هكذا كانت بالنسبة له، كانت أول نبضة قلب تسارعت، أول رجفة سعيدة متوترة، وأول شعلة أضرمت في قلبه.
لسبب خفي لا يعيه، كانت مجرد رؤيتها تشرق يومه، وسماع حديثها أعذب من هدير الماء أو تغريد البلبل.

×××

بعد ثلاثة أيام سيغدو في الثامنة من عمره، لقد ازداد طوله 20 سم عن السنة الماضية. ازداد صغر العالم في عينيه الواسعتين، فالبارحة استطاع الوصول إلى البسكويت أعلى الرف في المطبخ وشعر بإثارة غامرة بينما أخذ البسكويت بدون إذن والدته.

إنه رجل كبير الآن. عمره 8 سنوات [ إلا ثلاثة أيام ]...

تأمل انعكاس صورته على المرآة، وعدل لياقة قميصه ثم تناول المشط وشذب خصلات شعره.
"سأعطيها الكعكة اليوم" فكر بينما كان يلمس شعره بيديه...
سوى تجاعيد قميصه، ثم تناول العطر الرجالي الذي أخذه من غرفة والده و رش رشتين على قميصه وعنقه.
ألقى نظرة أخيرة على مظهره، تبسم ثم رفع يده ونفخ فيها ليتحقق من انتعاش أنفاسه. ثم غادر الغرفة موصدا الباب خلفه.

×××

منذ أن لمحتها عيناه... شغلت قلبه وعقله، ببراءة تفكيره وقلة تجاربه قال له عقله الصغير أنها لابد وأنها تريد رجلا وليس طفلا صغيرا...
أخفى براءة عينيه الواسعتين بنظرة مصطنعة نصف نائمة، أخفى ضحكته التي غالبا ما تبدأ بحرف الخاء، وحاول قدر الإمكان ألا ينفعل حتى لا يحمر خديه.

مشى في طريقه إلى مبناها المجاور لمبناهم، بثقة بدأت تتزعزع كان يفكر بالعودة يوما آخر. إلا أن قدماه أبت التراجع... ليس اليوم أيضا.

وصل إلى المبنى ثم صعد الدرجات وبدأ يتعرق متوترا...
إنها الشقة... أخذ نفسا عميقا ثم رفع يده وطرق على الباب.

فتحت والدتها الباب.. "مرحبا جوني"
"مرحبا" رد بتوتر.. "هل فنيسا في المنزل؟"
"أجل، لحظة سأناديها.." ردت وهمت بالدخول لمناداة فيسيا.

بعد لحظات ظهرت فنيسا على عتبه الباب. بشفتين حائرتين بين الابتسام والصمت. وخدين متوردين احمرارا. وضفيرتين على جانبي وجهها الأخاذ.

"مرحبا جوني" قالت بحياء.
"مرحبا" قال متذكرا أن يصنع نظرته النصف نائمة. "أحضرت لك شيئا".
ثم ناولها الكعكة [ مغلفة بورق هدايا زهري ] التي مضى عليها أسبوعين اثنين.
أخذتها و همت بفتحها.. وما أن فتحتها حتى صدمت من المنظر. كانت الكعكة مكسوة بالبكتريا والفطريات حتى اكتسبت لونا أخضر باهت.
تقززت من المنظر.. وبعفويتها الطفولية رسمت وجها عابسا على ملامحها. رمت الكعكة بوجهه وهربت إلى الداخل.

تسمر هو في مكانه. لا يدري ماذا يقول أو يفكر. مرت ثوان حتى استوعب الأمر في عقله. صاح غاضبا وركل الهواء بقدمه.

×××

عاد إلى منزله دافنا رأسه بين يديه بمشاعر مضطربة ونهاية غير متوقعة.
رمى بجسده على أول كرسي قابله.
كان والده مارا بالردهة عندما رأى منظر جوني الصغير. تعجب في نفسه ثم توجه نحوه.
"ما بك؟" سأله والده.
"لا شيء" رد متزمتا.
" هل يتعلق الأمر بـ فنيسا؟" قال بحذق.
رفع جوني ناظريه إلى والده وحدق به مطولا.. ثم قال مستسلما "أجل".
تأمل والده المظهر الذي يحاول أن يبدو عليه... ثم تفهم الأمر تماما.
"جوني" قال والده ... "هل ظننت أنك عندما تبدو أكبر سنا ستثير إعجابها؟"
رد جوني شاعرا بقلة حيلته "أجل".
أطلق الوالد ضحكة صغيرة ثم قال "ليس هذا ما تريده هي
!" ..
حدق فيه ابنه مطولا فتابع حديثه قائلا "لقد قابلتها. إنها فعلا معجبة بك. عليك فقط أن تكون نفسك..."

تابع جوني تحديقه منتظرا تشجيعا أكثر. فقال والده "ثق بي. أنا أعرف... هل تريدني أن أدعوها لحفل ميلادك؟"
هز رأسه نافيا وقال بثقة "سأدعوها بنفسي".
قام عن كرسيه وخلع معطف بذلته ثم رفع يديه إلى رأسه وقام بتخريب تسريحة شعره المهذبة.
ضحك والده وقال "رويدا رويدا".
أسرع جوني خارجا وأوصد الباب خلفه. ركض على الطريق ومر بمحل لبيع الأزهار واشترى زهرة حمراء من أجلها.
طرق الباب.
فتح الباب، وظهرت خلفه فنيسا. تفاجأت بعودته مرة أخرى.
فقال لها: آسف بشأن الكعكة. أردت أن أعطيك إياها منذ أسبوعين، وانتهى بها الأمر إلى الفساد.
ضحكت هي. ناولها الزهرة.
أخذتها وتبسمت له مرة أخرى. حك رأسه خجلا.
فقال لها "هل تستطيعين أن تأتي لحفل ميلادي بعد ثلاثة أيام؟"
ردت "سأسأل أمي.. لكنها لن تمانع" وتبسمت مرة أخرى.

×××

نفخ جوني شموع الكعكة، تمنى في قلبه أن يحصل على دراجة جديدة هو و فنيسا، لكي يتنزها معا. نظر إليها بقربه وتبسم إليها ثم قال "هل تريدين بعض الكعك؟"
ضحكت وقالت "أجل. بشرط ألا يكون فاسدا".
أطلق دوني ضحكته التي تبدأ بحرف الخاء، عالما أنها غريبة جدا. لكنه علم في قلبه أنه أصغر من أن يبالي.
كان والده ووالدته يتأملان المنظر من مكانهما. شيء في تصرفات جوني و فنيسا معا حركت مشاعر في قلبيهما. شعور أول حب في حياتهما. تبسما لبعضهما. ثم تعانقا. وأملا أن يشيخا بهذه المشاعر ذاتها.

×××

Sunday, October 17, 2010

One step on the bus


×××
     لحظات الإحراج، تمر ببطء. وكأن الزمن يتكاسل لكي تدرك مدى غباء موقفك. جميع الأعين معلقة بك، تحدق بك كـ [مهرج] بأنف أحمر، ووجه أبيض مرعب.
شددت قبضتي على حقيبة ظهري، وأوقفت دموعي عن التعبير عن رأيها. ثم قلت بغصة في حلقي "سأغادر الآن".
استدرت فورا غير مكترثة لنداء أحد، فقد اكتفيت فعلا.
كان المشهد يعيد نفسه مرة تلو أخرى في عقلي. " هل لي أن أحدثك يا سمر؟ أحتاجك في موضوع ما"، نظر إلي وقال "عن إذنك يا دلال"
"دله تنكسر على راسك" جملة تردد صداها في عقلي دون أدنى مشاعر بالذنب.
كنت أسرع إيقاع خطواتي دون شعور مني، موقفه كان كفيلا بدفعي للركض والصراخ، هو يعلم كم أغير منها. يعلم كيف أشعر، وكيف أفكر...
حتى سمعت صوت ندائه "دلال توقفي".
التفتّ لأجده راكضا نحوي "لم ستخرجين وحدك؟ هذه ليست من عاداتك". سألني متعجبا.
تحججت بأشغالي وألم في رأسي، فلم يزد حديثا على حديثه وعاد هو وحيرته أدراجه مخذولا.
ألم عصر قلبي في تلك اللحظة. كيف يهون علي أن أعيده أدراجه بعد لحق بي، إلا أن أفكاري سرعان ما قررت أنه يستحق أكثر من هذا على ما فعله..
ثبت نظري على الأرض ثم سرت بخطوات واسعة حتى كدت أركض في حرم الجامعة.
خرجت من البوابة، تريثت قليلا.. ثم نظرت حولي وخلفي باحثة عن أي ظل له... بلا أي جدوى.
أدركت أنني فوتّ قطار العودة، وأن مشكلة بسيطة ستحول إلى عدة أيام أليمة. 
ممسكة بحقيبتي وأوراقي، أسبح في بحر أفكاري... تولت قدماي مهمة المشي إلى الباص، تلقائيا جلست على الكرسي الثاني من الأمام بجوار النافذة.
وضعت حقيبتي على قدمي وأسندت رأسي عليها، ثم أغمضت عينيّ، وسرحت متنقلة من فكرة إلى فكرة، أتخيل شتى أنواع السيناريوهات التي ستدور بيننا.
شعرت بأحدهم يجلس قربي.
ثم سمعت صوته "دلال؟".
هل أصبت بالجنون؟ أم أن عقلي يتلاعب بي؟ أمعقول؟
و لدهشتي التفتّ لأجده هو.
بأنفاس متقطعة... ونظرة متوسلة... همس لي قائلا... "سامحيني".
اعذرني يا قلبي، كيف لا أسامحه؟ كيف لا أبتسم له؟ كيف أتوقف عن حبه أو النطق باسمه؟ وهو .... [هو ].
بحياء شديد، وخدين متوردين خجلا خفضت بصري.
فقال "هل مازلت غاضبة؟".
حركت رأسي لا.
"سامحتك منذ أن صعدت على هذا الباص".
×××

Friday, October 1, 2010

فقاعات الصابون


.






×××

صوت صفير الأجهزة حولها لا يكف عن الطنين، حتى حال طنينه إلى أزير أسد  في أذنيه، وكأن صفيرها ينتظر اللحظة التي يعلن فيها عن رحيل دقات قلبها.

أكياس دماء تحلق فوق فراشها، كفراشات دامية، قاتلة. ودماء تقطر.

إبر، أدوية، ممرضين. بات لا يطيق أي من هذا.

حتى دقات الساعة بدأت تتململ من إنصاته لها. تتباطأ في كسل وكأنها تتحرك رغما عنها.

"لولاك يا وفاء لما صبرت على هذا المكان". فكر في نفسه.





تأمل وجهها الأبيض الشاحب، وعينيها المستترتين خلف جفنيها النائمين، وشفتيها اللتين ازرقتا بلون الأدوية.

الطعام الوحيد الذي تحصل عليه يصلها من كيس "سكر" يحلق فوق سماءها، فقط ليعكر صفوها.





جال بنظره في الغرفة البيضاء. راقب أشعة الشمس تحاول التسلل من فلجات الستائر، ثم حول نظره إلى الأزهار التي أحاطت بفراشها من كل جانب، ثم رفع بصره إلى البالونات الملونة التي تتراقص مع أنسام الهواء.





وعاد يحدق إليها.





أمسك بيدها اليمنى بكلتا يديه وطأطأ رأسه. "لقد مرت عشر ساعات على انتهاء العملية، يجب أن تفيقي الآن". فكر هو.

لن أطيق الخروج من هنا بدونك، ليس بدون يدك لتمسك بيدي. مستحيل ! ""

ارتفع صوت طنين الجهاز. ولأول مرة، بدا طنينه كأحلى موسيقى تطرب أذنيه، كاد أن يرقص لولا أن عينيه تعلقتا بها في انتظار أقل إشارة لاستيقاظها.

كان يراقب أقل تحركات جسدها، منتظرا تمتمة غير مفهومة أو حركة إصبع، أو حتى رفه جفن.





مرت دقائق وهو بنفس الحال، وطنين الجهاز الذي منذ ثوان قليلة كان مبشرا، أصبح مزعجا أكثر فقط لا غير.

شعر باليأس يغلبه مرة أخرى في معركته.

حتى وضع يده على خده. "وفاء أين أنت؟" كلمات خرجت من بين شفتيه دون أن يشعر.





شعر فجأة بحركة طفيفة. فرفع ناظريه ليراها تصارع لكي تفتح جفنيها. فأحكم قبضته على يمناها وقال "هل تسمعينني؟".

وببطء شديد وثوان مرت كسنوات، فتحت عينيها.

صور مبهمة متداخلة، وأصوات هائمة، دقات متباطئة وطنين شديد الإزعاج.

وشبح غريب يحدق بها.

من أنت؟ سؤال أبى الخروج من بين شفتيها.

مرت عدة ثوان، ارتدت فيها الصور تفاصيلها، رويدا رويدا، اتضحت لها معالم الشبح الغريب.

هذا ليس شبحا غريبا، إنه شادي.

بقوى خائرة، وجسد واهن، مالت برأسها تجاهه. ثم تبسمت.

[ابتسامة] رسمت بشكل تلقائي، بالرغم من جسدها المتعب وعينيها المنهكتين.

بقلب يكاد يخرج من صدره فرحا، وعينين تشعان بهجة، قال "وفاء؟".

ردت بصوت خافت وحنجرة لم تستخدم حروفها منذ مدة "شادي".

رفع سبابته إلى شفتيه وقال "لا تتحدثي كثيرا".

ثم وضع يده في جيبه قائلا " أحضرت لك شيئا".

تابعته وفاء بنظراتها المتأملة.

فأخرج من جيبه علبة صغيرة أسطوانية، وردية اللون وقال ضاحكا "إنها فقاعات الصابون".

اتسعت ابتسامتها حتى بانت ضروسها الخلفية وقالت بسعادة لائمة "شادي".

أشار بسبابته إلى شفتيه مرة أخرى وهمس "شششششش".

ثم فتح العلبة بعجل، وأمسك بغطائها ذي العصا التي في آخرها دائرة مفرغة، ثم غمرها في الصابون

.

تبسم...



قربها إلى شفاه وفاء.

نظرت إليه، ثم أغمضت عينيها ونفخت فيها.

وتماما كالسحر، انطلقت فقاعات الصابون إلى الهواء. عاكسة شتى ألوان الطيف.


Wednesday, September 29, 2010

خربشات على الأزهار


×××

لا أدري ما الذي أصابني عندما سمعت سؤالها؟!
"
ماهي زهرتك المفضلة يا نوار؟"
تعابير غباء علت ملامحي، شددت حاجبي إلى أعلى وحدقت إليها بعينين تشعان تعجباً. كيف لي أن أُفضل زهرة على أخرى؟ وكأنها تطلب مني أن أُفضل قطرة مطر على أخرى.
كلهن أخوات، صديقات، مكملات لبعضهن.
أم هل قصدت بسؤالها لون الزهرة؟
أجبت ببراءة "أحب الحمراء منها". ثم تبسمت ابتسامة عريضة.
مالت برأسها في حيرة، ثم قالت "اللون الأحمر؟... كنت أعني نوعها".
معقول؟ ظننت أنني مخطئة، وأن فكرها لابد أن يكون أكبر من هذا.
سألتها باستنكار "كيف لي أن أفضل إحداها على الأخرى؟"
تنهدت ثم قالت بروية "انظري إلى هذه الزهرة كمثال، إنها تدعى الكارنيشن.. بتلاتها عريضة جميلة، وكأنها تفردها لتتباهى بجمالها الأخاذ، أما عبقها فإنه وبكل بساطة..." أخذت نفسا عميقا مغمضة عينيها "رائع".
تعجبت من كلامها المبهم "أوليسوا جميعا هكذا؟".
ردت كأنها سمعت همس خواطري قائلة " إنها بكل تأكيد تختلف عن غيرها، فانظري إلى الليلي البيضاء، واللافندر وايريس"
صمتت ثم تابعت "كلها مختلفة عن بعضها"
ثم أردفت مشيرة بسبابتها إلي "مثل اختلاف بصمات أصابعكِ العشرة يا نوار،،، كل زهرة لها جمالها المتفرد وعبقها الأخاذ ورونقها الساحر، مثلكِ تماما. كلنا بشر لكن كل منا متفرد في ذاته وشخصه".
وضعت يدها على كتفي وقالت "نعم، أنت مميزة يا نوار، بكيانكِ و نفسكِ و شخصيتكِ و أفعالكِ" ثم تبسمت.
في عقلي الصغير الذي جل ما اهتم به كان قطعة حلوى أو لعبة صغير ضائعة.. دارت أفكار كبيرة. رسمت بفرشاة زاهية الألوان، لتكون لوحة غير مكتملة على جدران كياني، لأصبح أنا إنسانة متفردة، عظيمة.
 
×××

النهاية

أنا وأنا الأخرى

×××

عطر بلا رائحة ولا طعم ذلك الذي ينبع من روحها، لونه أحمر قاتم، تماما كالدماء.
فقد عبيره عندما تخلت عن الحب في قلبها، واكتسب اللون الأحمر عندما كرهت نفسها وما حولها. وفقد طعمه عندما قررت الاستسلام وحسب. وتناست أن الجمال ينبع من قلبها لا من تقاسيم وجهها.


×××

أكره المرآة، أكرهها.
أكره ذلك الوجه القبيح الذي يحدق بي عندما أنظر إلى المرآة، وكأنها تبحث عن شيء ما.
تنظر إلي من خلال المرآة مثل كلب متوسل، إنها مقرفة، مقززة، أود لو أسحقها.
لا أستطيع أن أجد سببا واحدا ليجعل أي شخص يحبها، لاهي بالجميلة، ولا بالذكية، ولا بذات شخصية مثيرة للاهتمام.

×××

"كفي عن الحديث عني بهذه الطريقة، وجهي هو وجهك، ملامحي هي ملامحك".
- "منذ أن ولدت لم تنعتي إلا بأنف الساحرة والفزاعة، أنت قبيحة".
- "وما شأنك أنت؟"
- "ألم تقولي منذ ثوان أن وجهي هو وجهك؟"
- "أنا لم أختر أن نكون في جسد واحد".
- "هذا صحيح" ثم قالت بازدراء "لكنك ستضيعين بدوني، أنت في حاجتي".
- "أنا لا أريدك معي".
ردت بنبرة ساخرة "أنت نكرة بدوني".
طرق على الباب.
علقت نظرها على الباب ثم قالت "تفضل".
دخل فتى في العاشرة من عمره ثم قال "العشاء جاهز، آندي".
- "سأكون هناك حالا".

×××

نظرت لانعكاسها على المرآة.
تأملت مظهرها وشكلها، أنفها الطويل وعينيها الناعستين وشفاهها التي تكاد لا تكون واضحة. فقالت إيما في سخرية "حدقي إلى الأبد، لن تزدادي جمالا" ثم ضحكت بصوت عال.
ردت آندي "اصمتي إيما".

×××

بدأ الأمر عندما توفيت جدتي قبل ستة أشهر، كنا مقربتين جدا، في الحقيقة إنها أقرب إنسان لي.
كنت أصاب بالإغماء بسبب أو بلا سبب، ويصحب ذلك الإغماء فقدان ذاكرة مؤقت لساعات طوال. بعدها بدأت أسمع أصوات من رأسي، حسبت أنني أصاب بالجنون. عندها ظهرت إيما، أنا الأخرى.
مع أننا نتشارك القلب والعقل والخاطر، إلا أن إيما لها عالمها الخاص وأصدقاؤها الخاصين وذكرياتها الخاصة.
لكننا نتشارك في شيء واحد... كلانا يكره ملامح وجهي.

×××

استيقظت آندي الساعة العاشرة صباحا
نظرت حولها لتجد غرفتها في حالة فوضى عارمة. الكتب ملقاة على الأرض، ملابسها في كل مكان، وقطع الحلوى والبسكويت تغطي الأرضية.
حاولت أن تسترجع شيئا مما حدث البارحة، لكنها لم تستطع، نزلت عن فراشها وألقت نظرة على انعكاسها على المرآة.
تفاجأت بمظهرها.
تسريحة شعر غريبة ومساحيق تجميل حمراء وخضراء، ملابس سوداء جلدية لم ترها من قبل.
"ما الذي حدث هنا؟".
ردت إيما "صباح الخير أيتها الناعسة".
"إيما؟"
- "أجل" ثم ابتسمت بخبث.
- "ما الذي حدث هنا؟"
- "ما حدث يا عزيزتي، هو أنك سئمت العيش كمراهقة مطيعة وقررت الهرب من المنزل والاحتفال قليلا.. رقصتي وشربتي بضعة كؤوس وعدت إلى المنزل".
اتسعت حدقتا عيني اندي وقالت "لا يمكن".
ابتسمت إيما بخبث وقالت "بل يمكن، وحدث فعلا".
احمر وجه اندي غضبا وصاحت "أنت من فعل هذا ! "
ضحكت إيما وقالت "على أحدنا أن يقوم بالترفيه عنا".
صاحت آندي "أيتها الحمقاء" ثم لكمت المرآة بقبضتها، وما لبثت أن تساقطت قطعة قطعة على الأرض، محدثة صوتا مهولا.
هوت اندي على ركبتيها ودفنت وجهها بين يديها الداميتين وشرعت تبكي.
فتح باب الغرفة لتظهر زوجة والدها مارثا من خلف الباب.
رفعت اندي رأسها، لتتضح معالم وجهها المنتفخة والمحمرة إثر البكاء، ويديها النازفتين ومساحيق التجميل التي سالت على وجنتيها.
هرعت إليها مارثا قائلة "هل أنت بخير؟ هل آذيت نفسك؟".
إيما: "إنها مجرد حمقاء تكره المتعة".
آندي: "اصمتي أيتها الحمقاء"
تعجبت مارثا ولاذت بالصمت.
إيما: "عودي لبكائك مرة أخرى. لن تغيري شيئا مما حدث".
التفتت آندي إلى إيما وقالت "قلت لك اصمتي"
- "سأقبل شكرك في أي وقت، فقد قضيت وقتا ممتعا البارحة" ثم ضحكت.
احتقن وجه آندي باللون الأحمر وصاحت بغضب مسرعة باتجاه إيما رافعة قبضتها في الهواء.
لكمت الهواء فقالت إيما "يالغبائك... أنا في رأسك فقط".
ظلت آندي تلكم الهواء مرارا وتكرارا بلا جدوى، حتى توقفت لتلتقط أنفاسها.
فقالت إيما بسخرية "هل انتهيت الآن؟"
فلكمتها مرة أخرى.
إيما "حسنا كما تشائين، أتساءل ما رأي مارثا بعدما رأت كل هذا؟"
التفتت اندي لمارثا التي كانت مندهشة كل الاندهاش، بحدقتين متسعتين، وفم فاغر.
كانت تنظر لأندي وكأنها الشيطان يتجلى أمامها. بمظهرها البشع ويديها الداميتين وشعرها المرعب.
تمتمت بكلمات توبة لله ووقفت بروية على قدميها في ذهول.
فقالت اندي "مارثا، أنت لا تفهمين".
- "أظن أنني فهمت كل شيء" ثم هرعت مسرعة خارج الغرفة مغلقة الباب بإحكام خلفها، وتلا ذلك صوت إغلاق غرفتها في آخر الممر.
خفضت اندي بصرها وتخلت عن إحدى دموعها لتجري على خدها.

×××

كان الكره بالنسبة لها أسهل من الحب، لأنها لم تتقبل نفسها، لم يتقبلها أحد. هي التي نبذت نفسها، بسبب وجه لم يكن لها يد في انتقاء ملامحه.

×××

معزوفة صمت تتناهى إلى مسامعها الآن. عاصفة هوجاء تتجه إلى قلبها، فقط لأنها اثنان.
موسيقى صخب، تراقص وجدانها. كره، حقد وغضب. تعزف بإتقان. لتساير جميع مشاعرها المضطربة.

×××

- " ما الذي حدث اليوم يا اندي؟".
- "لا شيء يا أبي" ردت ببرود.
- "لقد قالت لي مارثا ما حدث سابقا... هل هناك خطب ما؟" سأل مثبتا نظره عليها، وكأنه ينتظر منها إثباتا لكلماته المتهمة.
- "لا". قالت دون أن تنظر إليه.
- "مارثا تظن أن هناك شيئا يجري معك".
- "دعها تظن ذلك".
- "اندي" قالت بنبرة متهمة مرة أخرى.
- "ماذا؟" قالت دون أن تنظر إليه.
- "ماذا أخبرتك عن طريقة معاملتك لمارثا؟"
نظرت إليه ثم عادت تحدق في الأرض.
فقال لها بنبرة ثابتة لائمة "هل تعلمين مقدار الرعب الذي سببته لها؟"
اكتفت اندي بالصمت.
أردف قائلا "اذهبي واعتذري لها الآن".
وثبت من مكانها كأنها لم تصدق أن محاضرته عن مارثا مرة أخرى قد انتهت. رمقته بنظرة أخيرة وغادرت الغرفة متجهة نحو غرفة مارثا.
رفعت يدها لتطرق الباب عندما سمعت حديث مارثا.
"إنها مسكونة أؤكد لك... لم أرتح لها منذ أول يوم لاقيتها فيه... أحيانا أشعر أنها ستمسني بنوع من الجن.. يا إلهي يا جين.. ماذا أفعل هل أترك المنزل حتى يأخذها جورج إلى المدرسة العسكرية؟"
هوت دمعة من عيني آندي. حملت نفسها وهرعت إلى غرفتها حيث ارتمت بكل ثقلها على السرير وشرعت تبكي على وسادتها.
رفعت رأسها وصاحت "هل أنت سعيدة هكذا؟"
صمتت ثم أردفت "لقد دمرت حياتي، تهاني الحارة إيما".
شعرت بحركة خلفها فالتفتت لتجد والدها ومارثا خلفه تحتمي بقميصه الأزرق، متشبثة به كطفل ذو أربعة سنوات.
عدلت جلستها ومسحت دموعها.
قال "إلى من كنت تتحدثين اندي؟"
ردت بازدراء "كنت أحدث نفسي".
"لقد قالت إيما، مرة أخرى" همست مارثا ظانة أن جملتها لم تصل لأذني اندي.
والدها "من إيما هذه؟".
كانت آندي تتأمل منظر والدها ومارثا في مشهد من الدهشة العظيمة، فلم تتمالك نفسها وضحكت بصوت عال. وتوالت ضحكاتها حتى أدمعت عينيها، كأنه جنون من نوع ما. ثم أخذت نفسا عميقا وقالت "إيما هي أنا.. أنا الأخرى يا أبي".
اتسعت حدقتا عيني والدها وصمت مذهولا.
فأردفت "ما بك؟ هاهي صريحة واضحة... أنا أعاني من تعدد الشخصيات يا أبي. وكيف لك أن تعرف، إذا كنت لا تعرف شخصيتي أصلا؟"
كان والدها مذهولا في مكانه فتمتمت مارثا "يا رب" ..في حين نادى صوت داخل عقلها "لقد علمت هذا".
اندي: "هذا الشهر السابع منذ وجود إيما معي، لكنها تتمادى هذه الأيام" صمتت ثم أردفت "لابد أنك تفكر الآن أن ابنتك قبيحة، غبية، بلهاء وفوق ذلك كله مجنونة".
تبسمت ثم قالت "انأ أظن ذلك أيضا". ثم ضحكت بصوت عال.
فقال والدها بنبرته الثابتة التي دائما ما تنبئ بكارثة "آندي، سآخذك للمستشفي لتلقي العلاج المناسب"
حدقت فيه آندي بغضب "لا تحدثني وكأنني مجنونة"
مد يده إليها وقال "ستكونين بخير".
أبعدت يده عنها بضربة من كفها وقالت "لن أذهب لأي مكان".
بدأ يهدئها ويقول "آندي أنا والدك، أطيعيني هذا لمصلحتك"
بدأت آندي تحاصر في الزاوية وهي تصيح "لا لا لا"
حتى اقترب منها وأحاطها بين ذراعيه القويتين بقوة وصرخاتها تعلو "لا لا لااا"

×××

ظلام
وفقدان ذاكرة آخر...


×××

Monday, September 6, 2010

أضعت ملاكي الصغير



××××

مثل قوس القزح الذي ينتج عن انعكاس قطرات المطر، تكون حيواتنا انعكاسا لتصرفاتنا. تصرفاتنا هي التي تشكل حياتنا، هي التي تنحتها فعلا. إما مزخرفا بالألوان، أو حالك السواد. أو ربما ما بين.

وضعت كوبها المخصص للقهوة على الطاولة الزجاجية، وأخذت شهيقا عميقا. وأطلت بنظرها إلى الخارج.
"مازال المطر يتساقط" فكرت في نفسها.

وضعت القلم من يدها. لقد توقف الإلهام هنا. مررت سبابتها على طرف كوب القهوة. وسرحت بتفكيرها قليلا.

مضت مدة منذ أن نشرت لي مقالة في الصحيقة، شيماء أصبحت تنشر مقالاتها كل أسبوع بدلا عني، بينما أنا أغرق رويدا رويدا.
"ينقصني الإلهام".
لا أدري ما الذي حدث لي؟! بت لا أستطيع الكتابة. وكأن يداي تصابان بالشلل بعد ثلاثة أسطر.

أمسكَت بالقلم مجددا، ثم ارتشفًت من القهوة الساخنة.

"عن ماذا سأكتب هذه المرة؟ ... ملاك الإلهام؟". توقفت قليلا، ثم ضحكت لسخرية أفكارها وقالت "أفكاري الصغيرة سأحتفظ بها لنفسي".
التفتت إلى الخارج لتجد أن المطر لايبدو أنه سيتوقف في وقت قريب، بالنسبة لها، كان جوا جميلا، مشجعا على الخروج.

"يبدو أنني سأخرج لاستنشاق بعض الهواء المنعش".
توجهت نحو باب المنزل وارتدت معطفها وحذاء المطر الخاص بها ثم تناولت مظلتها وخرجت.

كانت تمشي بخطوات بطيئة على رصيف الشارع الواسع، بدون وجهة محددة. لكن فقط لتتنفس الصعداء.
على رصيف الشارع كانت تصغي لكل ما هو حولها، ارتطام قطرات المطر بالأرض وتسارع خطوات الناس بجانبها، و صوت عجلات الأطفال..

كان هناك صوت أكثر هيمنة وعلوا من كل الأصوات.
صوت ارتطام قطرات المطر بمظلتها. مسيطرًا على المحيط القريب من أذنيها.
أغمضت عينيها وأصغت.
"أضعت ملاكي الصغير".

عد إلي.
لا أدري أين هو الآن؟ ربما في مكان ما بين محبرتي وقلمي. ربما أضعته في ثنايا أوراقي، أو متاهات عقلي؟

اشتدت ضربات المطر على المظلة. واشتد علو صوتها.

"ملاك إلهامي الصغير".


"ملاكي".
سأكتب عن جميع المشاعر والأحاسيس، سأجسد كل العواطف الجارفة، سأكتب عن الحزن والفراق، سأكتب عن المعاناة المكبوتة. وعن الآلام الصارخة. عن الوحشة والغربة، عن المآسي والأحلام المغتالة.

لكنني لن أغفل عن المشاعر الصادقة، لن أغفل عن الجمال في عالمنا المتقلب. سأرسم السعادة والأمل، سأخطُ بقلمي البهجة والحب. سأكتب عن العيش بين طيات الأمل. عن المرح في رذاذ المطر، عن العشق المأسور، والشغف في القلوب.

قصصا عن الحب بعد الكره، والسعادة بعد الحزن، سأحكي عن تقلبات أحوال الدنيا، مابين جميل و قبيح. مابين بلسم وجرح.

انسلت المظلة من بين يديها، ثم تبسمت وفردت كلتا يديها، ومازالت عيناها مغمضتين.

كان جميع المارة يحدقون بها، كانت على علم بهذا، وشعرت بنظراتهم المتعجبة تلاحقها، لكنها لم تهتم، ظلت تبتسم، وظلت تمد ذراعيها.
كانت قطرات المطر تتراقص على كتفيها تارة، وتقبل جبينها تارة. فيما كان الهواء يداعب شعرها.

اليوم... هنا... استعدتك. أعدتك إلي. ملاك إلهامي الصغير. كل ما أحتاج إليه الآن هو قلمي ومحبرتي فقط، لكي نعود معا للأبد..



××××

خطوة أخرى للأمام




خطوة أخــرى للأمــام


بدأت حياتها تماما مثل الزهرة، مجرد بذرة صغيرة في عالم كبير. بدون أي حيلة، تحتاج لرعاية لكي تنمو وتزهر.
كبرت ونمت جذورها عميقا داخل الأرض. لاريح تقلعها ولا مياه تجرفها. أضحت فتية جميلة، تسحر الأنظار وتخطف الأنفاس. تتباهى بجمال بتلاتها البيضاء، وتفردها ليشهد الجميع على جمالها.

معتدلة الطول، بهية الطلة، بشوشة الضحكة، جميلة الملامح.

كانت لها احلام كبيرة، كبيرة جدا. أكبر من أي شيء في حياتها.

كلما فغرت فاهها اندهاشا بعد نجاح تجربة علمية، أو زمت شفتيها وقطبت جبينها إذا لم تنجح، أو ركضت لمعلمتها لتسألها عن ناتج إضافة الكلور إلى بروميد البوتاسيم.
كانت تحدد مسار حياتها. ترسم ملامح مستقبلها. بفرشة زاهية الألوان، رسمت جميع العناصر الكيميائية، وكل معادلة قابلتها، أي مركب حمضي أو قلوي. رسمت ورقة تباع الشمس، رسمت عنصرها المفضل. الهيدروجين. أحبته لأنه كان متفردا، مميزا، خفيفا كالريشة. كما كان المركب الأساسي لتكوين الماء، سر الحياة.

إنها في الحقيقة أشبه بذرة الهيدروجين هذه، في تفردها وتميزها، وأولويتها في جدول العناصر. لم تتوانَ يوما عن دراستها، ولم تتوانَ في الحصول على المركز الاول عاما بعد عام بين قريناتها. حتى صديقاتها رؤا تلك الشرارة في عينها، استطاعوا أن يميزوا البريق في عينيها، وعلموا أن لها مستقبلا باهرا.

لم يتفاجأ أحد عندما سمع أنها الأولى على المحافظة. ولم يرفّ لهم جفن عندما حصلت على منحة لأمريكا. كان أمرا متوقعا منها. إنها متفردة. زهرة مميزة. زهرة بيضاء في حقل من الزهور الحمراء.

هاهي ذي تغلق حقائبها وترتدي حذاءها الخفيف، وتضع آخر لمسات مساحيق التجميل على وجنتيها. نظرت لانعكاسها على المرآة. ابتسمت ابتسامة رضا، وعاد لذاكرتها كم من ذكريات الأربع وعشرين سنة الماضية.
تذكرت كتب المدرسة، كتاب مادة الكيمياء على وجه الخصوص. تذكرت خربشاتها على هوامش الكتب المدرسية. والملاحظات الصغيرة بقلمها الوردي التي تلقيها المعلمة في أثناء الدرس، تذكرت أستاذة مادة الكيمياء، سميرة، بتفانيها الدائم ودروسها المكثفة خلال الفسحة. عاد إلى ذاكرتها وجه كل صديقة من صديقاتها مودعة إياها بحزن، رهام، أمنية، مودة، وفاء.

وهي الآن تودعهم لتلتحق بكلية في أمريكا لكي تحصل على درجة الماجستير..

حملت حقيبة يدها. وألقت نظرة مودعة أخيرة لغرفتها، ثم أطفأت الأضواء وأغلقت الباب.
كان شعورا غريبا أن تودع غرفتها الوحيدة التي عرفتها منذ الصغر، غرفتها التي حملت في كل ركن من أركانها ذكرى صغيرة.
ذكريات صغيرة تجتمع معا لتكون 24 سنة من حياتها.

غريب هو كيف أن غرفة صغيرة تحمل حياة شخص كاملة بين ثناياها. غريب أن تحن إلى سريرها، مكتبها وخزانة ملابسها. والآن هي على وشك أن تترك كل ما عرفته خلال سنوات حياتها في وطنها، لترحل إلى بلاد أخرى، وتحمل معها علمٌ في عقلها، وقطع من الملابس في حقيبتها وذكرى في قلبها.

كم هو صعب الفراق.
فكرت بينما كانت تنزل السلم درجة درجة.

لماذا يتوجب علينا أن نعانيه؟ لماذا يجب علينا أن نترك من نحب؟ كم أود أن أحتضن أمي ولا أتركها أبدا.
كم تعبت من أجلي، كم عانت لراحتي، أذكر كأس الشاي الذي كانت تصنعه لي ليلا فترة الاختبارات النهائية. وعصير البرتقال الذي تصنعه لي كل صباح، وحتى عندما تطبخ أكلاتي المفضلة. يا الله؟! هل حقا سأتركها وأسافر ملايين الأميال؟!
هاهي أمي، تقف عند الباب الأمامي، بابتسامتها التي لطالما أثلجت صدري وطمأنتني.

حيتني قائلة "سكر!".
كانت هذه تحيتها لي كل صباح. منذ أن كنت في العاشرة من عمري، كان هذا هو الإسم الذي تناديني به، تقول "لأنك كنت تحبين الحلوى والسكاكر، وتسرعين ركضا كلما ناديتك لإعطائك إياها".
بدت أجمل من أي وقت مضى، كأنها القمر وقد أحاطت به هالة من الضوء. مع أنني سبق ورأيتها مرتدية هذا الفستان، ولم تضفْ شيئا من مساحيق التجميل، ولم تغير تسريحة شعرها حتى. لكنها بدت فعلا كالملاك.

أمي.

عانقتها أمام الباب، فلم تقوَ عينايَ على احتباس الدموع بعد الآن، بكت هي أيضا معي. وكأننا كنا ننتظر لحظة واحدة لننهار فيها سوية.

مثل أي زهرة مميزة يحين وقت ويتم فيه قطفها من أرضها، فيتوجب عليها أن تودع تربتها التي لطالما عرفتها، والتي لطالما اعتنت بها وشاطرتها جميع آلامها وأحلامها.
تبكي.. فتبكي ندىً زكيا طاهرا، لا تشوبه شائبة.


"تشجعي" قالت لي بصوتٍ ملؤه الثقة "مستقبلك سيكون باهرا يا دنيـــا".
تأملتُها، منتظرة كلماتها التي تشجعني بها كل مرة.
فعادت تقول لي "ستسافرين وستدرسين بجد، هذه فرصة عمرك التي لطالما انتظرتِها، ارفعي رأسك عاليًا يا دنيـــا".
شيء ما في كلماتها أو في نبرة صوتها دفع محفزا قويا داخلي، كعادتي عندما أسمع كلماتها، أشعر وكأن الأمل يدفعني للمضي قدمًا لتحقيق حلمي.
لن أخيب ظنك يا أماه، سأعمل بأقصى مالدي من قوة؛ لأحقق حلمي وأجعلك فخورة بي.

سرعان ما توضع الزهرة في آنية جديدة، بين ثنايا تربة جديدة، وتبدأ في التآلف والتأقلم مع وضعها الجديد. بتصميم ومثابرة ستتأقلم وستعيش، لتبهر كل من يراها.

×××

ضحية الساتي


.~~.~~.~~.~~.


الليلة الثانية.

"إنه مريض جدا، لكنه سيكون بخير. هذا ما قاله الطبيب على الأقل".


الليلة الثالثة.
"إنه مريض منذ ثلاثة أيام، لا يبدو أنه يتحسن. لكنه لن يموت".


الليلة الرابعة.

"يبدو أكثر سوادا من البارحة، لا أرى أي تحسن. كل ما أراه هو التدهور. لكنني لن أتركه ليموت. لا لن يموت".


الليلة الخامسة.
"لا يبدو أن هناك مفر، لقد شارفت روحه على الهلاك، لم يعد يقوَ على الكلام. كيف سنترك أطفالنا في هذا العالم؟!".


الليلة السادسة.


دخلت لتعطيه الأعشاب التي يتناولها كل ليلة وتمده بالماء والغذاء اللذان يحتاجهما.
اقتربت من فراشه المنخفض، ووضعت الأوعية -التي كانت تحملها- على الأرض، ثم جلست بقربه.
نظرت إلى عينيه، فشعرت بالألم ينفذ من بين جفنيه.
"يدعى أبهي" فكرت هي، "أي الذي لا يهاب، كم يبدو ضعيفا الآن".
لمست جبينه، ثم نقلت يدها لتلمس وجهه.
كان باردا.
"سأعطيكَ دواءكَ الآن" قالت هي.
رفعتْ رأسهُ بيدها اليسرى، وناولتهُ الدواء بيدها اليمنى، وبدلا من أن يرتشفه كما كان يفعل دائما، سال الدواء من طرفي فمه بينما يزال فمه مفتوحًا.
تعجبت هي، وقامت بوضع رأسه بروية على الفراش، ثم مسحت الدواء من طرفي فمه.
تناولت جرعة أخرى من الدواء في يدها اليمنى، وكررت الحركة برفع رأسه، ثم أعطته الدواء في فمه لكنه ما لبثَ أن سال من طرفي فمه مرة أخرى.

فزعتْ.

لمستْ جبينه مرة أخرى، هل يمكن؟!
وضعت يدها على رقبته. ثم فزعت ووثبت من السرير ثم سقطت على الأرض فأراقت الماء والطعام.
كانت تنظر إليه بفزع.
"لقد... لقد مات أبهي".
هنا، سمعتْ صوتَ أحدهم ينادي من خلف ستارة الباب الرئيسي.
"مرحبا، أريد أن أرى أبهي".
كان صوته كالساقطة تسقط على رأسها. لم يكن موت أبهي هو خوفها الوحيد، بل موتها هي الذي سيليه.
"سيعرفون أن أبهي مات، ثم سيحرقونني أنا! ما مصير ابني أميتاب؟ وماذا عن أبناء أختي؟".

صاح الرجل من خلف مرة أخرى "أستطيع أن أراك، سأدخل الآن".
اتخذت هي قرارا لحظيا.

قررت الهرب.


هرعت إلى غرفة الأطفال.
صاح الرجل من خلف الستارة "إلى أين تذهبين؟"
أيقظت الأطفال من نومهم.

لن تشرد ابنها كما شرد أبناء أختها. لقد رأت الأمر يحدث سابقا، ولم تستطع فعل شيء. فقد ذهبت أختها مطاوعة، لكنها لن تذهب بقدميها إلى المحرقة.

ارتدت عباءتها الواسعة ثم حملت ابن أختها الوليد على ظهرها، وأمسكت بيد ابنها بيدها اليمين، وبيد ابنة أختها بيدها اليسار.

كانت على وشك الخروج عندما رفعت رأسها لتجد رجلا ضخم الجثة يسد طريق الغرفة.
فزعت، ولاحت لها صورة محرقة النعش في مخيلتها.
صاحت به متراجعة إلى الخلف "ماذا تريد؟".
قال هو "إلى أين أنت ذاهبة؟".
-"هذا ليس من شأنك" صاحت هي.
تراجعت قليلا إلى الوراء مرة أخرى، وأحكمت بساعدها على الوليد الصغير، ثم ضمت الأطفال إليها.
"لقد توفي زوجك".
صمتت هي.
عاد يتحدث "وأنت تنوين الهرب، أليس كذلك؟".
لم ترد عليه، واكتفت بالتحديق إلى عينيه.
-"ألا تخجلين من نفسك؟ ألست حزينة لموت زوجك؟" صاح بغضب.
هنا خرج من الغرفة متجها إلى خارج المنزل.
تفاجأت هي.

"ألن يسلمني لكي يحرقوني؟" تساءلت في نفسها.
كانت متعجبة من تصرفه. مترقبة لما سيحدث. وما ينويه هذا الرجل؟

لم يكن هناك وقت، كان عليها الهرب؛ لحماية نفسها وأطفالها.
كادت أن تخرج من المنزل، لكنها تفاجأت بجمع غفير من الرجال، يحملون حرابهم بين أيديهم. يترأسهم نفس الرجل الخبيث.
نظرت بفزع، واعتراها الخوف.
صاح الأطفال خائفين، متشبثين بعباءة أمهم.
ركعت على ركبتيها تحتضن أطفالها، لقد علمت أنه الوداع.
قبلت كل منهم على جبينه وخده.
"اهتم بهم يا أميتاب، أنت أكبرهم الآن".

سحبها الرجل من عباءتها ففزعت، فارتفع صوت بكاء الأطفال.
كان يسحبها بعنف وهي تصارع وتضرب الهواء بقدميها.
حملها الرجل بمساعدة رجل آخر، أما جثة أبهي فقد حملها رجلان آخران، متجهين إلى محرقة النعش.


لاحقهم أميتاب بنظراته الباكية.
إلى أين يأخذون أمه بعيدا عنه؟
أحكم قبضته الصغيرة وقرر اللحاق بهم فترك إخوته خلفه، وركض ليلحق بالرجال. سامعا صيحات أمه، وعاجزا عن فعل أي شيء.

وصل الرجال إلى المحرقة.

صاحت هي "اتركوني! لدي أطفال لأعيش من أجلهم! من سيعيلهم؟ لمن سأتركهم؟"
كانت تهدر صيحاتها سدى، فلم تسمعها إلا الجدران.
تصيح وتبكي، لا أحد يسمع، ولا أحد يهتم.
قلوبهم كانت أحجارا.
في رأيهم أنها يجب أن تكون حزينة لموت زوجها، ويجب عليها أن تتطوع لحرق نفسها، لكنها كانت خائنة في نظرهم. لا تحب زوجها ولم تحزن لفراقه.
فإذا لم تطاوع لحرقها، فإنها ستحرق إجباريًا.


ربطت بحبال في لوح خشبي بسمك جذع شجرة.
كانت الحشود قد تجمعت، لم يكن الأمر جديدا.
إنها محرقة أخرى.

وُضعتْ في محرقة النعش ووضع زوجها بقربها.
انتهت دموعها وجفت، واستسلمت لمصيرها.
فجأة لاح لها ظل أميتاب الصغير من بعيد.
همست "أميتاب؟! هل هذا ابني الصغير؟!"
صاحت "إنه هو! أميتاب! أبعدوا ابني الصغير! لا تدعوه يراني هكذا".
شرع أميتاب في البكاء مرة أخرى، فصاح وعلا صوته، وركض باتجاه أمه.
كانت تصيح "لا! ابتعد يا أميتاب!".
قبل أن تكمل جملتها...

اشتعلت النيران.

فزع الطفل الصغير وتجمد في مكانه، ولم تقوَ قدماه على حمله.
كانت تصرخ من الألم، والنيران تحرق جلدها رويدًا، رويدًا.

غَطت إحدى النساء عيني الطفل الصغير، وحمته بملابسها.
بعد ماذا؟
استطاع أن يسمع صرخات أمه.
رآها تحرق!
ولم يملك إلا دموعه، فبكى.
لم يعي السبب، ولا ما اقترفته أمه من ذنب لتستحق هذا؟
أو ما فعله هو من خطأ ليأخذوا أمه بعيدًا عنه؟
لكنه فهم شيئا واحدا، إنه لن يرى أمه مجددا.
أما السبب فهو مجهول.


.~~.~~.~~.~~.

أمام المرآة


أمام المرآة
.
.
جلست تحمل المقص بفتور، تحدق إلى بؤبؤي عينيها الأسودين ، وتراقب كحلها يسيل على خديها مرافقا دموعها الساخنة.
حولت نظرها إلى الأرض . تأملت شعرها الذي - منذ ثوان قليلة فقط - كان على رأسها.
تنهدت...
ثم عادت تحدق إلى المرآة مرة أخرى، تأملت شعرها الذي بات قصيرا وطوله لا يصل إلى شحمة أذنها.
هوت دمعة أخرى...
مسحتها بطرف يدها، ثم لمحت آثار الكحل على يدها، فمسحت بيدها على فستانها عفوا.
تنبهت لما فعلته للتو!!
فوثبت من مكانها وأسرعت إلى الحمام لتغسل آثار الكحل..
غسلته بقوة، غسلت، وغسلت، وغسلت حتى كونت بقعة ماء كبيرة على الفستان.
لكنها لم تدر إذا كان نظيفا أم لا؟!
لأنه أسود اللون.
حدقت فيه بغضب، ولم تدر من تعاتب؟ الفستان أم نفسها؟!
أرادت أن تصرخ، لكنها شعرت بغصة في حلقها.
طوقت عنقها بين يديها، كأنها تحاول إنهاء حياتها.
أغمضت عيناها بشدة!
ثم أبعدت يديها وجلست على أرضية الحمام الباردة، ودفنت وجهها بين يديها، كأنها تخفي حزنها، أو ربما دموعها..
وتدفنهما بعيدا بالقرب من سعادتها...
"لو تعود فقط..."
همست بصوت غير مسموع.

××××

صاحت جيريمي "لا تحدثيني مرة أخرى!!"
أسرعت بخطاها نحو الباب حاملة معطفها الفروي بغضب، ثم فتحت الباب وأغلقته بأقوى ما يمكن.
تنهدت ايفيلين وفكرت، سأحدثها غدا عندما تهدأ.

××××

قادت جيريمي السيارة بسرعة جنونية وغضب متزايد حتى وصلت لمنزلها ثم ألقت بالمعطف على أقرب كرسي من الباب، كأنها تصب عليه جام غضبها، وهو من تسبب في غضبها.
ثم جلست على الكرسي الذي بجانبه.
تنهدت...
ثم أغمضت عينيها. عادت بذاكرتها إلى ما حدث...
بدا وكأنها تسمع الأصوات من حولها، وتشعر بالأشياء من حولها..
المشهد يعيد نفسه.

××××

جيريمي "ايفي أين أنت؟ نحن على وشك أن نبدأ؟"
ايفيلين "يا إلهي جيريمي، الوضع جنوني في المستشفى. سأحاول أن أنهي مناوبتي بأسرع ما يمكن"
- "أسرعي ايفي، إذا لم تأت هذه المرة..."
- "أعلم جيريمي، أدرك أهمية هذا الأمر بالنسبة إليك"
- "ايفي..." قالت بنبرة تهديد.
- "أعلم، سأحاول أن أكون هناك بأقصى سرعة، والآن وداعا علي الذهاب"
أغلقت السماعة...
ظلت جيريمي تحدق في سماعة الهاتف، حتى نادتها إحدى الفتيات قائلة " جيمي، هيا بنا، عليك أن تقصي الشريط الأحمر. يا إلهي كم أنا متحمسة!" وأسرعت بالمغادرة.
عادت جيريمي تحدق إلى سماعة الهاتف، وتتذكر عدد المرات التي لم تأت فيها صديقتها ايفيلين بسبب عملها.
ثم قالت لنفسها " ليس هذه المرة، إنه افتتاح صالوني الجديد"
حاولت أن تقتنع بما قالته، وهمت بالمغادرة، فنظرت إلى انعكاسها في المرآة، تتأمل جمال الفستان الذي ترتديه. ليس في شكله وحسب، بل في قيمته في قلبها. إنه هدية ايفيلين بمناسبة الافتتاح.
ابتسمت تلقائيا وغادرت.

××××

انتهت الحفلة، وغادر الجميع تاركين الصالون بحالة يرثى لها.
ايفيلين.. ايفيلين لم تحضر بعد.
جلست جيريمي على أحد الكراسي تفكر في وعود صديقتها الفارغة بغضب شديد.
فجأة اقتحمت ايفيلين الصالون بعجل وهي تنظر حولها باحثة عن الضيوف "هل غادر الجميع؟" سألت ايفيلين.
- " نعم، إلا أنا"
- " اه، إنني آسفة يا عزيزتي. ان المرضى.."
قاطعتها جيريمي " لا ينتهون؟ "
صمتت ايفيلين.
صاحت جيريمي بغضب " مثل كل مرة ايفيلين مارك ستيوارت، صالوني لا يهمك بشيء وأنا لا أهمك بشيء!"
حدقت فيها بغضب ثم صاحت " لا تحدثيني مرة أخرى "

××××

تردد صدى هذه الكلمة في ذهنها.
لم تشعر بالوقت يمضي، سارحة في أفكارها الخاصة.
فجأة رن الهاتف.
جفلت لوهلة ثم نظرت لساعة يدها.
"لقد مرت قرابة الساعة" همست.
مازال الهاتف يرن.
نهضت ثم ردت على الهاتف " مرحبا، منزل ميد"
رد عليها " مرحبا، هل أنت الآنسة جيريمي ميد؟ "
- "نعم هذه هي، من أنت؟ "
- " أنا ويليام ويلكس، أعمل بمستشفى الوعد. الآنسة إيفيلين ستيوارت عينتك كالشخص الذي نتصل به في حالة..."
قاطعته قائلة بفزع " ماذا حدث لها؟ "
خفق قلبها بشدة.
- نحن نحتاجك أن تحضري هنا وبأقصى سرعة، إن حالتها خطرة "
انسل الهاتف من بين يديها.
همست وهي تحدق في الفراغ " يا إلهي أرجوك لا "

××××

وصلت جيريمي إلى المستشفى وهي مازالت تفكر بما حدث للتو.
هرعت إلى عاملة الاستقبال "ايفيلين ستيورات لو سمحت، وصلت هنا منذ قليل. أنا جيريمي ميد "
- " إنها في الغرفة 4311 في الطابق الرابع، انعطفي في نهاية الرواق يمينا "
تمتمت "شكرا" وأسرعت باتجاه المصعد.
كانت جيريمي مشوشة حتى الآن، تلتهم أظافرها بتوتر.
تذكرت كلماتها لأعز صديقاتها..
" لا تحدثيني مرة أخرى "
أغمضت عيناها بقوة "حمقاء!"
فتح الباب.
أسرعت باتجاه آخر الرواق لتجد الطبيب خارجا من غرفة ايفيلين.
نظرت إليه بتوسل.
فرد الطبيب مجيبا تساؤلاتها بأسف "أعتذر، لقد فعلنا كـ..."
لم تسمع جيريمي كلمة مما قاله، كان حديثه طلاسم أحرف لم تفهمها.
حدقت في الفراغ.
شعرت وكأن القدر يعاقبها لأنها لم تعذر ايفيلين.
والآن، أين إيفي؟
" لا يمكن ".
دخلت الغرفة، لتجد ايفيلين مستلقية على السرير، مدفونة بين أكوام من الأجهزة.
مشت ببطء نحوها.
وكأن قدماها لا تريدان حملها.
ايفيلين... بريقها وجمالها... اختفيا.
إنها شاحبة اللون.. صفراء.
أبعدت جيريمي خصلات شعرها عن عينيها.
بدأت جيريمي تشعر بضياع روح ايفيلين.
لم تتقبل الأمر لكنها فهمته على الأقل.
هوت دمعتان من عينيها.
تبعهما سيول من الدموع.
أمسكت بيدي صديقتها، وأحكمت عليها.
" آسفة " همست جيريمي.
ضغطت على يديها بقوة وقالت " سامحيني".

××××

أمام المرآة...
أسرح في الأيام الخوالي...
أمام المرآة...
أتذكرك ببراءتك وعفويتك
أتحسر...
على أيام غدت ذكريات وحسب، منحوتة في الذاكرة.
بين طيات السنين.
أيام عشناها سوية
انتهت بسرعة...
باغتتني على غفلة، كيف أعذر نفسي؟
كيف أعذر نفسا آذتك؟
فدموعي لن تطهرني، حسرتي لن تفيدني
لا، لن تعيدني.
أحدق في الماضي أمام المرآة.
وأمام المرآة
أرى انعكاسك بقربي.

××××

× كبريــــــــــــــــــاء ×

كسر الصمت صوت الماء المندفع من الصنبور..
مازالت يدها متصلبة بالشكل الذي ألقت به خاتمها إلى حتفه، فمشى هو بخطواته الواثقة إلى المغسلة، وجال بنظره فيها..
ولم يجد أثرا للخاتم الذهبي، فنظر إلى بنصرها الأيسر ليمحو شكوكه حول رميها للخاتم
..
- "لا تتعب نفسك" قالت سارة "لقد رأيتني أرميه"
- "أعلم هذا" قال أحمد بتكبر "لكنني أتأكد وحسب"..
- "لا داعي" قالت هي بازدراء في طريقها للخروج من المطبخ وباتجاه الشرفة..
فتح باب الشرفة، ودخلت سارة ثم جلست على الكرسي إلى يمينها..
لم تمر لحظات حتى دخل أحمد، وجلس على الكرسي الآخر..
حدقا ببعضهما لثوان، حتى قال أحمد بجفاء: "لم فعلت هذا؟"
"هذا ما أردت فعله" قالت ببرود "ماذا ستفعل؟ هل ستطلقني؟"
ثم ضحكت بصوت عال..
فابتسم هو بخبث قائلا "كلا، بل سأبتاع لك واحدا آخر" وضحك بخفوت..
- "استسلم يا أحمد" قالت وهي تحدق فيه بثبات "لن أحبك"..
- "أعلم ما تريدينه... ولن أفعله مهما حدث"..
ضحكت بصوت عال وقالت "أنت تعلم أنني لم أتزوجك إلا لمالك وحسب".. صمتت ثم قالت "أما قلبي فلن تحصل عليه مهما فعلت"
- "وماذا إن جعلتك تحبينني؟"
- "الشيء الوحيد الذي أحببته بك كان مالك"صمتت ثم قالت بجفاء "ولم تعد تملكه الآن.. أنت مجرد رجل فقير، ولست أي شيء بالنسبة إلي"
ابتسم وكأنما أطرته لأبعد الحدود..
ثم دار بينهما صمت جديد، لم تخفف من حدته إلا النسمات العابرة، وضوء القمر الوليد..
فتطايرت خصلات شعرها، ولمعت عيناها بنور غريب.. نظر إليها أحمد، فتعجب من تحجر قلب هذا الجمال، وغريب قول هذا اللسان، وتلك النظرات القاسية لهذه العينان الساحرتان..
كسرت سارة الصمت بقولها: "لم أعد أحتمل"... ثم قالت ببرود دون أن تنظر إليه "طلقني يا أحمد"..
لم يبد أحمد أي تعبير فقد اعتاد على سماع هذه الكلمات..
فتبسم وقال "لا شكرا"..
هم بالمغادرة ولكنها أمسكت بساعده..
نظر إليها بنظرات باردة، أخفت حبا ومشاعر جبارة، ورغم جميع محاولاته لكسب حبها، كانت سارة أعند امرأة قابلها، وأقسى إنسانة رآها، لم تعطه من حبها ذرة ليعود بها إلى رشده، ورغم كل هذا ظل أحمد يحبها ومازال..
وتحمل العذاب، عذاب حبه لامرأة ليس له مكان في قلبها، لكنه بات لا يظهر حبه، لم يرد لقلبه أن يتعذب أكثر، فصار يخفي مشاعره المتقدة بنظراته الباردة..
والتي يرمقها بها الآن..
"أنا مصغ" قال بجمود..
علقت نظرها عليه وقالت بنبرة راجيه "دعني أذهب، مكاني ليس هنا معك"..
ولأول مرة، رأى أحمد سارة بهذا المنظور، إنها لم ترجو أحد قط، تفعل ماتريد وتأخذ ماتشاء ويحلو لها بأي شكل أو طريقة..
"اتركني اذهب"

تردد صدى الكلمات المعلقة في الأجواء..
وكأنما سمعها لأول مرة، تبلد أحمد في مكانه، وخفق قلبه بشدة، كاد يسقط أرضا لولا ان تمسك بالجدار..
ومع انه لم يظهر شيئا، كانت الكلمة كالساقطة تسقط على رأسه، فلم ينبس ببنت شفة، وظل واقفا..
حتى صاحت سارة "أحمد!! "
عاد إلى رشده وهز رأسه بسرعة، وسار في طريقه كانما لم يسمع..
فوقفت من مكانها وصاحت "عد إلى هنا، إنني أحدثك!! "
فتوقف فجأة والتفت بحدة عائدا إليها وصاح "لا أريد"
فزعت سارة، فلم تره يفقد أعصابه قبلا..
تقابلا وجها لوجه، فاعتراها الخوف، فقد كان هذا جانبا جديدا من أحمد..
فصاح بها مرة أخرى "لا"
فحاولت أن ترد بالقوة "مابك؟... أنا لم أعد أحتملك؟؟"
- "أنا أحبك" صاح بها "ألا تفهمين؟.. ولا أريد ان أراك مع رجل آخر"
- "وما شأني إذا كنت تحبني؟"
- "يالك من انسانه أنانية، طوال هذه الثماني سنين، حاولت أن أجعلك تحبينني، فعلت لك كل شيء، كل شيء!! لكن أنانيتك كانت دائما في الطريق!! "
- جفلت سارة وصمتت..
- "أنت قاسية!! ألا تفهمين أنني أحبك ولن تجدي من يحبك أكثر مني أيتها الحمقاء؟"
- "أنا حمقاء؟" صاحت لترد عليه "أيها الـ.."
- "ماذا؟؟" قاطعها صارخا..
صمتت سارة فلم يصرخ أحد بوجهها قط، كانت هي من يصيح ومن يطاع، فبدا لها قويا جدا، كأنما حامت حوله سحابة من هيبة..
تبادلا النظرات لثوان..
.
.
"سارة.. " قال أحمد مشيحا بوجهه "لقد فقدت أعصابي"
لكن سارة لم تشعر بنفسها تميل إليه وتنكسر أمام جبروته..
"لا بأس" قالت وهي تعانقه..
تعجب أحمد في نفسه، "ما الذي يجري؟"
وكأن شيئا استيقظ في قلبه الحزين.. وأصبح كل شيء أكثر وضوحاـ تفتح عقله ورأى كل شيء بمنظور آخر..
ربما كان شيئا ما في لفظ "ثمان سنين" أعاد إليه أليم الذكريات وأسودها.. سيئها ومرها..
وكانت يداها حوله تماما عندما نظر إلى الأرض بأسف وقال ...
"يكفي...أنت طالـــق"
أبعد يداها عنه بحزم وغادر الشرفة قائلا "الوداع"
.
.
.
عم السكون في المكان..
لم يبق شيء على الأرض إلا وقد رثي لها، حتى رثت هي على نفسها..
.
.
طالق؟... هل هذا حقيقي؟.. أليس هذا ما أردته؟.. إذا لماذا.. ؟
عادت بذاكرتها إلى سنتين في الماضي، وسط شجار مع أحمد..
"لقد اعتدت أن تحصلي على ماتريدين.... أنت مدللــة"
تردد صدى تلك الكلمات في ذهنها..
"هل هذا معقول؟" تمتمت في ذهول تام..
أحمد على حق، فكرت سارة، ما الذي فعلته؟.. أنا.. لا أستحق شخصا مثل أحمد..
هوت دمعة من سارة،.. سارة متحجرة القلب، سارة القاسية، التي لم ترحم قلب رجلا أحبها بكل كيانه وروحه..
ولم تشعر إلا بحرارة دموعها المنهمرة على خديها..
لقد فعلت هذا بنفسي.. لقد خسرته للأبد...

×