Wednesday, July 27, 2011

..|| خمســـــــة أعوام من الصمـــت ||..


قيل "لا يغفو قلب الأب، حتى تغفو جميع القلوب"
حقا.. ما عدت أذكر متى غفا قلبي.. ماعدت أذكر متى غفا قلبك أنت ؟!
متى نمتِ واستيقظتِ ؟ متى كبرت وأصبح عمرك سبعة عشر ربيعا ؟


في أي يوم من الخمسة أعوام الماضية، حال قلبك إلى حجر ؟ في أي يوم فقدتِ طفولتك وبراءتك وأنوثتك ؟ في أي يوم توقفتي عن النظر إلى عيني... عن مناداتي بـ [والدي]...


×××


مستلقيا على فراشه البارد، يحدق إلى السقف تارة، وإلى النافذة المغلقة وستائرها المسدلة تارة اخرى.. يتساءل عن أحوال الطقس، وأحوال الناس، أحوال أهله اللذين لم يسمع منهم خبرا منذ اعوام، وعن أمور وطنه الذي يسكنه ولا يسكنه..
في غرفةٍ تعبق برائحة المعقمات المركزة، والأدوية التي اعتاد طعمها المتسلل إلى حنجرته، غرفةٍ كلما تنقل ببصره فيها وجد خزانة أدوية أخرى..


دخلتْ هي إلى الغرفة اليوم... كـ كل يوم...
تغير الكيس الحائم فوق سمائه.. والموشوم بساعده..


بلا أي تبادل للمفردات، فقط بعينين لم تذوقا طعما للنوم منذ خمسة أعوام، عينين تحدقان من خلاله ... لا إليه، على اتساعهما، بنظرات خالية، تحمل دموعا مكتومة، وألما ولوم..


ثم تضع كتابا لـ [نجيب محفوظ] على الطاولة بقربه.. لا يعلم لوضعها له سببا، الا ان شيئا من ذاكرتها النائمة، يذكر حبه العظيم لنجيب..
"إياك أن تفكر بالخروج من هنا ! إنني أحذرك !" تقول مثل كل يوم. وتخرج موصدة الباب خلفها، وتأمنه بالمفتاح.
"وكأنني أستطيع الوصول إلى ذلك الباب الواهن"..
ويظل ساكنا.. يتأمل الفراغ الذي خلفته..


يطالعها بنفس العينين اللتين تسهران الصباح، وتصومان الليل، بنفس القلب الذي لم يهدأ منذ أعوام، والذي مايكاد ينتفض، حتى تسكـته نظراتها، ثم تخمده كلماتها..


××


اليوم دخلت... كـ كل يوم...
تبدل الكيس، ثم تأتي نحوه، بنفس العينين والنظرات.. بنفس المشاعر والألم..


تضع ساعده على كتفها، ثم تحمله إلى الكرسي بجانب سريره، وجسده هو مجرد جلد وعظم، نحيل وواهن.. وعروق تبرز عن جلده سنتميترات..
والصمت يكاد يمزق قلبه أشلاء..


وهي تنحني على السرير، انسدلت خصلات شعرها على خدها..


"تشبهين طفلة، كانت يوما ما أنتِ، كم تشبه عيناك عيناها، وتقاسيمك ملامحها.. طفلة كانت تعبث بمساحيق أمها، وكانت تخالف ارتداء أحذيتها الصغيرة.. طفلة تعلقت بأم لها، وحضن كان لها وحدها، ثم تفاجأت بالقدر يبسط يده ويأخذها.. ثم تصيبها، بنفس الداء.. الذي تحمله عيناك، وينزف به قلبك.. كما نزف به قلب أمك.. وجميع جداتك.. " ..


عادت لتعزله مرة اخرى في منفاه..
فوضعت ساعده على كتفها ..
في خطوتها الأولى، تعثرت بفستانها، فسقطا على الأرض، بعيدا عن بعضهما..


آلام تجمعت على مدى الأيام، كأوراق فصل خريف، لم تجمع من الأرض.. وتُــركت لتتراكم وتتراكم وتتراكم..
كالغمامة التي تخيم على قلبها، والعذاب الذي يسامر وجدانها..


مرت لحظات...
مرت ثوانٍ..
مرت دقائق.. وهي ساكنة مكانها بلا حراك.. حتى التفتت إليه بحدة، توسط بؤبؤيها عينيها، بحقد يكاد يشنق رقبته..


صرخت صرخة واحدة..
أطلقتها من أعمق نقطة بحنجرتها، صرخة طويلة مستمرة..
كانت تصرخ، حتى شعر بالأرض تهتز تحت قدماه، وبشعر جسده يقف منتصبا، وأحس بالرعب يدب في عروقه...


عاجزا عن الحراك، جلس ساكنا..
عاجزا عن الحديث، لم ينبس ببنت شفة..
عاجزا وحسب، راقبها، تصرخ، وصرخاتها تتعالى حتى اهتزت جنبات المكان..
"هل السبب هو ارتطام ركبتيك بأرضية الرخام الباردة؟"


صمتت بلا مقدمات.. ثم أسرعت بالوقوف وهرعت خارج الغرفة، مرت لحظات، حتى عادت بسكين في يدها.
موجة من الخوف المطلق شقت طريقها عبر عروقه إلى كل أطراف جسده، كتيار كهربائي عال التوتر، فكر دون كلمات "ماذا ستفعلين؟"
بعينيها البنيتين صاحت "أخفت ؟ هل خفت يا علاء ؟"
حاول أن ينطق ولو بحرف واحد، لكن مخارجه المشلولة ردت بأحرف مبهمة..
"أعلم أنك جبان !"


أمسكت بخصلات من شعرها، ورفعت السكين، وجعلت تقص تلك الشعيرات.
بينما كان يراقبها، صامتا، مترقبا، مرتعبا..


"أكرهك. إنني أكرهك." قالت بنبرة هادئة مهموسة، كأنما تحدث نفسها. "لقد سئمته.. سئمت .. سئمت شلله... تمتماته الغير مفهومة .. سئمت كرهه حتى.. تبا .. لابد من إيجاد حل الآن".


كانت خصلات شعرها تتوالى في السقوط تباعا.. وأجزاء من فروة رأسها الحليقة تظهر للعيان.
"سوف أنهي كل هذا" همست لنفسها.


اقتربت منه بخطوات متقاربة، بطيئة.
وكأن وقع خطواتها سيمفونية تضحية سانتيرية، تعزفها الأرض التي تمشي عليها، وتحدث بنهاية مشؤومة، مقدورة منذ خمس سنوات.


كعادتها تنظر خلاله، وليس إليه.
حتى صارت على بعد إنشات منه..
رفعت السكين..


كان ينقل ناظريه إلى عينيها الغائبتين تارة، وإلى سكينها تارة أخرى.. مترقبا مصيره .. على يد ابنته الصغيرة..


ومع جنون الموقف برمته.. كانت جملة واحدة تدور برأس هذا الأب، تردد صداها، كما لو كانت هي التي تحتويه..


"أسامحك يا ابنتي"
هوت دمعة بلا استئذان من عينيه، وكأنها جملته التي نطقت بها عينيه عوضا عن شفتيه.. بعد خمسة أعوام من الصمت.. من قلبه، وليس لسانه، بتعابيرها ومعانيها كاملة..


تأملت تلك الدمعة.. وكأنها ترى شيئا ما، لأول مرة..
وبلا سابق إنذار، حولت مسار السكين إلى قلبها، وغرستها في قلبها.. وخرت صريعة بجانبه..
انتشرت دماؤها حتى لوثت ملابسه القطنية الخفيفة.. وعبق دماؤها ينتشر ممزوجا برائحة المعقمات والأدوية التي شربتها الجدران حتى تشبعت ..


هذه المرة، لم ينطق أيضا.. وهذه المرة تمتم بأحرف مبهمة، أيضا.. وحتى عينيه، لم تشأ أن تتحدث أيضا، كانت حواسه.. تراقب فقط..
لأن الالام، كالبراكين تماما... عندما تثور، تهدم كل ما حولها..
وهاهو جسده الان، يتشرب تلك الالام، ويتجرعها.. حتى يثور بركانه يوما ما...


~

2 comments:

  1. *cries*

    ...

    utterly amazing! :'(

    I have no words to describe what gone into my heart from such true-full feelings!

    ReplyDelete
  2. كلمات جميلة و معبرة
    تحياتي و تقبلي مروري

    ReplyDelete