Monday, September 6, 2010

خطوة أخرى للأمام




خطوة أخــرى للأمــام


بدأت حياتها تماما مثل الزهرة، مجرد بذرة صغيرة في عالم كبير. بدون أي حيلة، تحتاج لرعاية لكي تنمو وتزهر.
كبرت ونمت جذورها عميقا داخل الأرض. لاريح تقلعها ولا مياه تجرفها. أضحت فتية جميلة، تسحر الأنظار وتخطف الأنفاس. تتباهى بجمال بتلاتها البيضاء، وتفردها ليشهد الجميع على جمالها.

معتدلة الطول، بهية الطلة، بشوشة الضحكة، جميلة الملامح.

كانت لها احلام كبيرة، كبيرة جدا. أكبر من أي شيء في حياتها.

كلما فغرت فاهها اندهاشا بعد نجاح تجربة علمية، أو زمت شفتيها وقطبت جبينها إذا لم تنجح، أو ركضت لمعلمتها لتسألها عن ناتج إضافة الكلور إلى بروميد البوتاسيم.
كانت تحدد مسار حياتها. ترسم ملامح مستقبلها. بفرشة زاهية الألوان، رسمت جميع العناصر الكيميائية، وكل معادلة قابلتها، أي مركب حمضي أو قلوي. رسمت ورقة تباع الشمس، رسمت عنصرها المفضل. الهيدروجين. أحبته لأنه كان متفردا، مميزا، خفيفا كالريشة. كما كان المركب الأساسي لتكوين الماء، سر الحياة.

إنها في الحقيقة أشبه بذرة الهيدروجين هذه، في تفردها وتميزها، وأولويتها في جدول العناصر. لم تتوانَ يوما عن دراستها، ولم تتوانَ في الحصول على المركز الاول عاما بعد عام بين قريناتها. حتى صديقاتها رؤا تلك الشرارة في عينها، استطاعوا أن يميزوا البريق في عينيها، وعلموا أن لها مستقبلا باهرا.

لم يتفاجأ أحد عندما سمع أنها الأولى على المحافظة. ولم يرفّ لهم جفن عندما حصلت على منحة لأمريكا. كان أمرا متوقعا منها. إنها متفردة. زهرة مميزة. زهرة بيضاء في حقل من الزهور الحمراء.

هاهي ذي تغلق حقائبها وترتدي حذاءها الخفيف، وتضع آخر لمسات مساحيق التجميل على وجنتيها. نظرت لانعكاسها على المرآة. ابتسمت ابتسامة رضا، وعاد لذاكرتها كم من ذكريات الأربع وعشرين سنة الماضية.
تذكرت كتب المدرسة، كتاب مادة الكيمياء على وجه الخصوص. تذكرت خربشاتها على هوامش الكتب المدرسية. والملاحظات الصغيرة بقلمها الوردي التي تلقيها المعلمة في أثناء الدرس، تذكرت أستاذة مادة الكيمياء، سميرة، بتفانيها الدائم ودروسها المكثفة خلال الفسحة. عاد إلى ذاكرتها وجه كل صديقة من صديقاتها مودعة إياها بحزن، رهام، أمنية، مودة، وفاء.

وهي الآن تودعهم لتلتحق بكلية في أمريكا لكي تحصل على درجة الماجستير..

حملت حقيبة يدها. وألقت نظرة مودعة أخيرة لغرفتها، ثم أطفأت الأضواء وأغلقت الباب.
كان شعورا غريبا أن تودع غرفتها الوحيدة التي عرفتها منذ الصغر، غرفتها التي حملت في كل ركن من أركانها ذكرى صغيرة.
ذكريات صغيرة تجتمع معا لتكون 24 سنة من حياتها.

غريب هو كيف أن غرفة صغيرة تحمل حياة شخص كاملة بين ثناياها. غريب أن تحن إلى سريرها، مكتبها وخزانة ملابسها. والآن هي على وشك أن تترك كل ما عرفته خلال سنوات حياتها في وطنها، لترحل إلى بلاد أخرى، وتحمل معها علمٌ في عقلها، وقطع من الملابس في حقيبتها وذكرى في قلبها.

كم هو صعب الفراق.
فكرت بينما كانت تنزل السلم درجة درجة.

لماذا يتوجب علينا أن نعانيه؟ لماذا يجب علينا أن نترك من نحب؟ كم أود أن أحتضن أمي ولا أتركها أبدا.
كم تعبت من أجلي، كم عانت لراحتي، أذكر كأس الشاي الذي كانت تصنعه لي ليلا فترة الاختبارات النهائية. وعصير البرتقال الذي تصنعه لي كل صباح، وحتى عندما تطبخ أكلاتي المفضلة. يا الله؟! هل حقا سأتركها وأسافر ملايين الأميال؟!
هاهي أمي، تقف عند الباب الأمامي، بابتسامتها التي لطالما أثلجت صدري وطمأنتني.

حيتني قائلة "سكر!".
كانت هذه تحيتها لي كل صباح. منذ أن كنت في العاشرة من عمري، كان هذا هو الإسم الذي تناديني به، تقول "لأنك كنت تحبين الحلوى والسكاكر، وتسرعين ركضا كلما ناديتك لإعطائك إياها".
بدت أجمل من أي وقت مضى، كأنها القمر وقد أحاطت به هالة من الضوء. مع أنني سبق ورأيتها مرتدية هذا الفستان، ولم تضفْ شيئا من مساحيق التجميل، ولم تغير تسريحة شعرها حتى. لكنها بدت فعلا كالملاك.

أمي.

عانقتها أمام الباب، فلم تقوَ عينايَ على احتباس الدموع بعد الآن، بكت هي أيضا معي. وكأننا كنا ننتظر لحظة واحدة لننهار فيها سوية.

مثل أي زهرة مميزة يحين وقت ويتم فيه قطفها من أرضها، فيتوجب عليها أن تودع تربتها التي لطالما عرفتها، والتي لطالما اعتنت بها وشاطرتها جميع آلامها وأحلامها.
تبكي.. فتبكي ندىً زكيا طاهرا، لا تشوبه شائبة.


"تشجعي" قالت لي بصوتٍ ملؤه الثقة "مستقبلك سيكون باهرا يا دنيـــا".
تأملتُها، منتظرة كلماتها التي تشجعني بها كل مرة.
فعادت تقول لي "ستسافرين وستدرسين بجد، هذه فرصة عمرك التي لطالما انتظرتِها، ارفعي رأسك عاليًا يا دنيـــا".
شيء ما في كلماتها أو في نبرة صوتها دفع محفزا قويا داخلي، كعادتي عندما أسمع كلماتها، أشعر وكأن الأمل يدفعني للمضي قدمًا لتحقيق حلمي.
لن أخيب ظنك يا أماه، سأعمل بأقصى مالدي من قوة؛ لأحقق حلمي وأجعلك فخورة بي.

سرعان ما توضع الزهرة في آنية جديدة، بين ثنايا تربة جديدة، وتبدأ في التآلف والتأقلم مع وضعها الجديد. بتصميم ومثابرة ستتأقلم وستعيش، لتبهر كل من يراها.

×××

No comments:

Post a Comment